سورة يونس - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يونس)


        


يقول الحق جل جلاله: {إنما مَثَلُ الحياةِ الدنيا} في سرعة تقضيها، وذهاب نعيمها بعد إقبالها، واغترار الناس بها، {كماء أنزلناه من السماءِ فاختلط} أي: اشتبك {به نباتُ الأرضِ} حتى اختلط بعضه ببعض، {مما يأكلُ الناسُ والأنعام} من الزرع والبقول والحشيش، {حتى إذا أخذت الأرضُ زخرفها} أي: زينتها وبهجتها بكمال نباتها، {وازّينتْ} أي: تزينت بأصناف النبات وأشكالها وألوانها المختلفة؛ كعروس أخذت من ألوان الثياب والحلي فتزينت بها.
{وظن اهلُها} أي: أهل الأرض {أنهم قادِرُون عليها} متمكنون من حصدها ورفع غلتها، {أتاها أمرُنا} أي: بعض الجوائح، كالريح والمطر، {ليلاً أو نهار فجعلناها} أي: زرعها {حصيداً}: شبيهاً بما حصد من أصله، {كأن لم تَغنَ}: كأن لم تُقم {بالأمس}، أو كأن يغن زرعها، أي: لم ينبت. والمراد: تشبيه الدنيا في سرعة انقضائها بنبات اخضرَّ ثم صار هشيماً، {كذلك نُفَصِّلُ الآيات لقوم يتفكرون} ويتدبرون عواقب الأموار، فيعلمون أن الدنيا سريعة الزوال، وشيكة التغير والانتقال، فيزهدون فيها ويجعلونها مزرعة لدار السلام، التي هي دار البقاء.
وهي التي دعا إليها عبادة بقوله: {والله يدعو إلى الدار السلام} أي: السلامة من الفناء وجميع الآفات، أو دار الله الذي هو السلام. وتخصيص هذا الاسم للتنبيه على ذلك، أو دار يُسلم اللهُ والملائكةُ فيها على من يدخلها، وهي الجنة، {ويهدي من يشاء} توْفِيقَه {إلى صراط مستقيم}، التي توصل إليها وإلى رضوانه فيها، وهو الإسلام والتدرُّع بلباس التقوى، وفي تعميم الدعوة وتخصيص الهداية بالمشيئة دليل على أن الأمر غير الإرادة، وأن المُصِرّ على الضلالة لم يرد الله رشده. قاله البيضاوي.
الإشارة: ما ذكر الحق تعالى في هذا الآية هو مثال لمن صرف همته إلى الدنيا، وأتعب نفسه في جمعها، فبنى وشيد وزخرف وغرس، فلما أشرف على التمتع بذلك اختطفته المنية، فلا ما كان أمَّل أدرك، ولا إلى ما فاته من العمل الصالح رجع.
وفي بعض خطبه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «أما رأيتم المؤاخَذين على الغرة، المزعَجين بعد الطمأنينة، الذين أقاموا على الشبهات، وجنحوا إلى الشهوات، حتى أتتهم رسلُ ربهم، فلا ما كانوا أمّلوا أدركوا، ولا ما فاتهم رجعوا، قدِموا على ما قدَّموا، وندموا على ما خلفوا، ولم ينفع الندم وقد جف القلم». وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: «لا تخدعنكم زخارف دنيا دنية عن مراتب جنات عالية، فكأنْ قد كشف القناع، وارتفع الارتياب ولاقى كل امرئ مستقره، وعرف مثواه ومنقلبه».
ورُوي عن جابر رضي الله عنه أنه قال: شهدت مجلساً من مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أتاه رجل أبيض، حسن الشعر واللون، فقال: السلام عليك يا رسول الله، قال: «وعليك السلام». قال: يا رسول الله، ما الدنيا؟ فقال: «حلم النائم، وأهلها مجازَون ومعاقبون». قال: يا رسول الله، فما الآخرة؟. قال: «الأبد، فريق في الجنة، وفريق في السعير» قال: يا رسول الله، فما الجنة؟ قال «ترك الدنيا بنعيمها أبداً» ثم قال: فما خير الأمة؟ قال «الذي يعجل بطاعة الله» قال: فكيف يكون الرجل فيها؟ أي في الدنيا قال «متشمراً كطالب قافلة» قال: وكم القرار بها؟ قال «كقدر المتخلف عن القافلة» قال: فكم بين الدنيا والآخرة؟ قال «كغمضة عين». ثم ذهب الرجل فلم يُر، فقال صلى الله عليه وسلم: «هذا جبريل أتاكم يزهدكم في الدنيا».
وقال الورتجبي عند قوله: {والله يدعو إلى دار السلام}: الله تعالى يدعو العبادَ من هذه الدار الفانية إلى الدار الباقية، لئلا يفتتنوا بزخرفها وغرورها، وليصلوا إلى جواره، ونعيم مشاهدته. اهـ.
قال المحشي: قلت: وذلك أن أعلى اللذات التحقق بصفات الربوبية، وهي محبوبة للقلب والروح بالطبع، لما فيه من المناسبة لها. ولذلك قال {قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85]، ثم المناسب إنما هو بقاء لا فناء وعز لا ذل فيه، وغنى لا فقر فيه، وكمال لا نقص فيه، وأمن لا خوف فيه، وهذا كله من أوصاف الربوبية، وحق كل عبد أن يطلب ملكاً عظيماً لا آخر له، ولا يكون ذلك في الدنيا لانصرافها وشوبها بآلام مكدّرات، وإنما ذلك في الآخرة ولكن الشيطان بتلبيسه وحسده يدعو إلى ما لا يدوم من العاجلة، متوسلاً بما في الطبع من العجلة، والله يدعو إلى المُلك الحقيقي، وذلك بالزهد في العاجل والراحة منه عاجلاً، ليكون ملكاً في الدنيا، وبالقرب من الله والرغبة في التحقق به وبأوصافه ليكون ملكاً في الآخرة.
وفي الطيبي: قيل لابن أدهم: ما لنا ندعو فلا نجاب؟ فقال: لأنه دعاهم فلم تُجيبوه، ثم قرأ: {والله يدعو إلى دار السلام} {وَيَسْتَجِيبُ الذين آمَنُواْ} [الشورى: 26]. اهـ.


يقول الحق جل جلاله: {للذين أحسنوا} فيما بينهم وبين ربهم بتوحيده وعبادته، وفيما بينهم وبين عباده بكف أذاهم وحمل جفاهم، لهم {الحسنى} أي: المثوبة الحسنى، وهي الجنة وزيادة، وهي النظر إلى وجهه الكريم، أو الحسنى: ما يثيب به على العمل، والزيادة: ما يزيد على ما يستحق العبد تفضلاً كقوله {وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ} [النساء: 173]، أو الحسنى: مثل حسناتهم، والزيادة: التضعيف بعشر أمثالها إلى سبعمائة أو أكثر، {ولا يرهقُ وجوهَهم} لا يغشاها {قَتَرٌ}: غبرة فيها سواد تغبر الوجه {ولا ذِلَّةٌ} أي: هوان، والمعنى لا يرهقهم ما يرهق أهل النار، أو لا يرهقهم ما يوجب ذلك من خزي وسوء حال، {أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون}: دائمون، لا زوال لهم عنها، ولا انقراض لنعيمها، بخلاف الدنيا وزخرفها فقد تقدم مثالها.
الإشارة: للذين أحسنوا بالانقطاع إلى الله والزهد فيما سواه الحسنى، وهي المعرفة، وزيادة، وهي الترقي في المقامات، والعروج في سماء المشاهدات، والازدياد من الأسرار والمكاشفات، وترادف المناجاة والمكالمات ولا يغشى وجوههم قتر ولا ذلة، بل وجوههم بنور البقاء مستبشرة، وهم خالدون في نعيم الفكرة والنظرة.


قلت: {والذين}: مبتدأ على حذف مضاف، أي: جزاء الذين كسبوا، {وجزاء}: خبر، أو على تقدير لهم أو معطوف على {للذين أحسنوا} على مذهب من يُجوز: في الدار زيد والحجرةِ عمرو. أو {جزاء}: مبتدأ، و{بمثلها}: خبر، والجملة حينئذٍ كبرى. ومن قرأ {قِطعَاً} بفتح الطاء فجمع قطيع، وهو مفعول ثان، و{مظلماً}: حال من الليل، ومن قرأ {قِطعَاً} بالسكون فمصدر، و{مظلماً} نعت له، أو حال منه أو من الليل.
يقول الحق جل جلاله: {والذين كسَبوا السيئات} كالكفر والشرك، وما يتبعهما من المعاصي، جزاؤهم {سيئة بمثلها} لا يزاد عليها، فلا تضاعف سيئاتهم، عدلاً منه سبحانه، {وترهقُهم ذِلةٌ} أي: هوان عند حشرهم للنار، {ما لهم من الله من عاصم} يعصمهم من عذاب الله وغضبه، {كأنما أُغشيَت وجوهُهُم قِطعَاً من الليل مظلماً}، أي: يحشرون مسودة وجوههم، كأنما أُكْسِيَتْ وجوههم قطْعاً كثيرة من الليل المظلم، أو قطْعاً مظلماً من الليل {أولئك أصحابُ النار هم فيها خالدون}.
قال البيضاوي: هذا مما يحتج به الوعيدية يعني المعتزلة في تخليد العصاة. والجواب: أن الآية في الكفار؛ لاشتمال السيئات على الكفر والشرك، ولأن الذين أحسنوا يتناول الكثير من أهل القبلة، فلا يتناوله قسيمُه. اهـ.
الإشارة: جزاء المعاصي البُعد والهوان، وتسْويد وجوه القلوب والأبدان، كما أن جزاء الطاعة التقريب والإبرار، وتنوير وجوه القلوب والأسرار والإحسان، وفي ذلك يقول ابن النحوي في منفرجته:
وَمَعَاصِي اللَّهِ سَماجَتُها *** تَزَدَانُ لِذي الخُلْقِ السَّمِج
وَلِطَاعَتِه وَصَبَاحَتِهَا *** أنْوارُ صَبَاحٍ مُنْبَلِجِ
قيل لبعض الصالحين: ما بال المجتهدين من أحسن الناس خلَقاً؟ قال: لأنهم خلَوْا بالرحمن فألبسهم نوراً من نوره. اهـ. نعم، إن صحب المعصية توبةٌ وانكسارٌ، وصحب الطاعة عز واستكبارُ، انقلبت حقيقتهما، فقد تُقرب المعصية وتبعد الطاعة. وفي الحكم: معصية أورثت ذلاً وافتقاراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً، وقال أيضاً: وربما قضى عليك بالذنب فكان سبب الوصول.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8